في عالم يسوده السعي المحموم لتحقيق النمو الاقتصادي، تبرز أزمة الصحة النفسية كواحدة من أكثر القضايا إلحاحاً وأقلها اهتماماً على المستوى العالمي.

إذ سلّط تقرير أممي، أعده المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، أوليفييه دي شوتر، الضوء على الأزمة العالمية في الصحة النفسية التي تفاقمت بسبب الهوس بالنمو الاقتصادي، وهي أزمة متفاقمة غالباً ما يتم تجاهلها.

وتحت عنوان «الاقتصاد المنهك: الفقر والصحة العقلية»، لعام 2024، ذكر دي شوتر في التقرير أن السعي المستمر للنمو المالي قد أوجد عاصفة من التحديات النفسية، خاصة بين الفئات الأكثر ضعفاً.

«النقد الدولي» يتوقع ارتفاع النمو العالمي لـ3.3% خلال 2025

الفقر وأثره على الصحة النفسية

وأبرز دي شوتر، الآثار الضارة لإعطاء الأولوية للنمو الاقتصادي في مختلف أنحاء المجتمع، مشيراً إلى أنه منذ الثورة الصناعية، تم ربط النمو الاقتصادي بالتقدم؛ مما دفع الحكومات والشركات والمؤسسات الدولية إلى التركيز بشكل كبير على الناتج المحلي الإجمالي.

مع ذلك، بحسب المقرر الخاص، فإن هذه الأولوية غالباً ما تأتي على حساب الرفاه الاجتماعي والبيئي، ما زاد من حدة المنافسة وساعات العمل وعدم الاستقرار الاقتصادي، الأمر الذي أسهم في ارتفاع مستويات القلق والاكتئاب والاضطرابات النفسية الأخرى.

ووفقاً للتقرير، فإن مطالبات العجز المتصلة بالصحة النفسية في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تشكل ما يصل إلى نصف المطالبات الجديدة، مع أكثر من 70% من هذه المطالبات قادمة من البالغين الشباب.

المساهم الرئيسي

وأشار دي شوتر، إلى أن الفقر يعد مساهماً رئيسياً في أزمة الصحة النفسية، فبحسب منظمة الصحة العالمية، يعاني 970 مليون شخص على مستوى العالم من اضطرابات نفسية، ويكون الأفراد ذوو الدخل المنخفض أكثر عرضة بثلاث مرات للإصابة بمشاكل نفسية مثل الاكتئاب والقلق مقارنةً بنظرائهم الأغنياء.

كما يواجه الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع ضغوطاً مزمنة نتيجة لانعدام الأمان المالي، والقدرة المحدودة على الوصول إلى خدمات الصحة النفسية، والوصمة الاجتماعية، مما يزيد معاناتهم.

ورأى دي شوتر، أنه مع زيادة الفقر من تفاقم المشاكل النفسية، فإن الإرهاق بين العاملين في الوظائف المكتبية هو أيضاً نتاج للنظام الاقتصادي ذاته.

وأضاف أن الضغط المستمر لزيادة الإنتاجية، جنباً إلى جنب مع التباعد بين العمل الذي يؤديه الناس وهدفه، يؤدي إلى مشاعر الفراغ والإرهاق.

وبحسب التقرير الأممي، فإن هذا الضغط لا يُشعر به في الشركات الكبرى فقط، بل يمتد أيضاً إلى الأعمال الصغيرة والعمال المستقلين، الذين يتأثرون جميعاً بنظام يفضل الأداء على الرفاهية الفردية.

وتذكر منظمة الصحة العالمية أن 35% فقط من الدول تمتلك برامج وطنية للترويج والوقاية من مشاكل الصحة النفسية المرتبطة بالعمل.

رفاهية الإنسان كأولوية

المقرر الأممي المعني بالفقر، شدد على أهمية إعادة توجيه السياسات الاقتصادية لتكون الأولوية فيها للرفاهية على حساب النمو المالي، لمعالجة أزمة الصحة النفسية.

وبحسب دي شوتر، يشمل ذلك تبني مؤشرات للرفاهية مثل نموذج «السعادة الوطنية الإجمالية» في بوتان، بالإضافة إلى تعزيز السياسات الاجتماعية مثل الوصول الشامل إلى الرعاية النفسية.

وعلى الرغم من الحاجة الملحة لتركيز أكبر على الصحة النفسية، تقدر الأمم المتحدة أن الحكومات تخصص فقط 2.1% من إنفاقها الصحي للصحة النفسية.

كما سلط التقرير، الضوء على الحاجة إلى تغييرات هيكلية في الاقتصاد، مع التركيز على السياسات التي تضع الناس في المقام الأول بدلاً من الأرباح.

وعلى سبيل المثال، ساهمت التغيرات في ظروف العمل والسياسات المتعلقة بسوق العمل، التي أدت إلى المزيد من الوظائف غير المستقرة، في تفاقم أزمة الصحة النفسية، خاصة بين العمال ذوي الدخل المنخفض.

كما أن زيادة عدد الوظائف بدوام جزئي والعمل المستقل، إلى جانب انخفاض الأجور وحماية العمال، تجعل من الصعب تحقيق توازن صحي بين العمل والحياة.

وفي سياق الاقتصاد الرقمي الحالي، اعتبر دي شوتر، أن العيش بلا عمل أقل ضرراً على الصحة النفسية من العمل في وظائف غير مستقرة.

توقعات الاقتصاد العالمي في 2025.. تباطؤ النمو وتباين أداء العملات

نماذج ناجحة

الأكثر من ذلك، استعرض التقرير الأممي بعض الأمثلة الواعدة على المبادرات التي يمكن أن تساهم في معالجة هذه الأزمة، إذ نجحت آيسلندا في تطبيق أسبوع عمل من 4 أيام دون تقليص الأجر؛ مما أدى إلى تحسين رفاهية الموظفين.

وبالمثل، اقترحت رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة، جاسيندا أرديرن «ميزانية الرفاهية» في عام 2019 كبديل للأطر التقليدية في تطوير السياسات العامة.

ودعا دي شوتر، إلى سياسات تضمن العمل الكريم والأجر العادل، بما في ذلك تنفيذ دخل أساسي عالمي، وساعات عمل قابلة للتنبؤ، وحماية أفضل للعمال، وذلك من أجل مزيد من التخفيف من الإرهاق النفسي.

كما شدد على أهمية اتباع نهج بيولوجي نفسي اجتماعي في معالجة الصحة النفسية، مؤكداً على أهمية مشاركة المتضررين مباشرة في عملية صنع السياسات.

وأوصى المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر، بتوسيع الوصول إلى المساحات الخضراء التي يمكن أن تلعب دوراً مهماً في إعادة الاتصال بالطبيعة وتعزيز الصحة النفسية.

وقدم التقرير صورة واضحة تدعم أهمية تغيير الأولويات للتعامل مع أزمة الصحة النفسية وبناء اقتصاد يخدم رفاهية الجميع، بدلاً من التركيز على النمو المالي فقط.


Source link