خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024 م بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للشيخ كمال المهدي ، بتاريخ 11 جمادي الآخرة 1446هـ ، الموافق 13 ديسمبر 2024م.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024 م ، بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للشيخ كمال المهدي.
١ – تكريمُ اللهِ تعالى للإنسانِ بمنحِهِ العقل.
٢- مظاهرُ اهتمامِ الإسلامِ بالعقلِ.
٣- كمالُ العقلِ والذكاءُ والفطنةُ صفةٌ لصحابةِ رسولِ اللهِ ﷺ.
٤ـ نماذجُ مِن تكليفِ النبيِّ ﷺ وصاحبِهِ أبِي بكرٍ الصديقِ بالمهامِّ الصعبةِ لأصحابِ العقولِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024 م ، بعنوان : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، كما يلي:
صناعةُ العقولِ وأثرُهَا في بناءِ الإنسانِ للشيخ كمال المهدي
بتاريخ 11 جمادى الآخرة 1446هـ ، الموافق 13 ديسمبر 2024م
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنَا ومِن سيئاتِ أعمالِنَا، مَن يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومَن يضللْ فلنْ تجدَ لهُ وليًّا مرشدًا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ سيدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ فصلواتُ اللهِ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين..
أمَّا بعدُ:
أحبتِي في الله: لقد خلقَ اللهُ جلَّ وعلا الإنسانَ وميزَهُ على جميعِ خلقِهِ وفضلَهُ، قالَ تعالَى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: ٧٠].
ومِمَّا أكرَمَ اللهُ بهِ، الإنسانَ على غيرِهِ وميزَهُ أنْ منحَهُ، العقلَ الذي يفرقُ بهِ بينَ الخطأِ والصوابِ، والتصرفِ الخاطئِ والتصرفِ السليمِ، وبينَ النافعِ والضّارِّ، ويفكرُ ويتدبرُ ليعرفَ بهِ ما يريدُهُ وما لا يريدُهُ. وإذا أردتُم أنْ تعرفُوا فضلَ اللهِ عليكُم بهذهِ النعمةِ فانظرُوا إلى مَن فقدَهَا كالمجانينِ وأصحابِ الأمراضِ العقليةِ.
زورُوا مشافِيَ الأمراضِ النفسيةِ، وانظرُوا إلى المجانينِ في الشوارعِ، واحمدُوا اللهَ على نعمتِهِ، واسألُوهُ دوامَ فضلِهِ.
فالعقلُ أحبتِي في اللهِ هو الركيزةُ الأساسيةُ في التقدمِ الإنسانِي والحضارِي، فأيُّ خطوةٍ خطاهَا الإنسانُ في هذا المضمارِ، هي نتاجُ النشاطِ الذهنِي والتفكيرِ الدؤوبِ المنبثقِ عن نعمةِ العقلِ التي تكرّمَ اللهُ بهَا على عبادِهِ، فالعقلُ كما يقولُ الغزالِيُّ “منبعُ العلمِ ومطلعُهُ وأساسُهُ”. فالحمدُ للهِ الذي مَنَّ علينَا بهذهِ النعمةِ العظيمةِ.
يقولُ عمرُ رضي اللهُ عنهُ: “أصلُ الرجلِ عقلُهُ، وحسبُهُ دينُهُ، ومروءتُهُ خلقُهُ”.
وقالَ بعضُ الحكماءِ: “العقلُ أفضلُ مرجوٍّ، والجهلُ أنكَى عدو”.
وقالَ بعضُ الأدباءِ: “صديقُ كلِّ امرئٍ عقلُهُ، وعدوُّهُ جهلُهُ”.
وقالَ بعضُ البلغاءِ: “خيرُ المواهبِ العقلُ، وشرُّ المصائبِ الجهلُ”.
تابع/ خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024 : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للشيخ كمال المهدي
ولَمَّا كانَ للعقلِ الإنسانِي ما بيَّنَا مِن الأهميةِ والدورِ الفاعلِ في الحياةِ، والأثرِ البارزِ في قضايَا العقيدةِ والمنهجِ الإسلامِي، اهتمَّ الإسلامُ بهِ، فجعلَهُ شرطاً مِن شروطِ التكليفِ، فمَن لا عقلَ لهُ (كالمعتوهِ والمجنونِ) فلا تكليفَ عليهِ؛ لأنَّ اللهَ إذا أخذَ ما وهبَ أسقطَ ما وجبَ.
ففي الحديثِ عن عائشةَ رضي اللهُ عنهَا أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «رُفِعَ القلمُ عن ثلاثةٍ عن النائمِ حتى يستيقظَ، وعن الصغيرِ حتى يكبرَ، وعن المجنونِ حتى يعقلَ أو يفيقً».
ولأهميةِ العقلِ في الإسلامِ، فقد جعلتْ الشريعةُ المقصدَ الثالثَ مِن مقاصدِهَا حفظَ العقلِ، بعدَ حفظِ الدِّينِ وحفظِ النفسِ، وهذا الترتيبُ يُبيِّنُ لنَا مدَى احتفاءِ الشريعةِ بالعقلِ، فالدِّينُ أوَّلاً؛ لكونِهِ الغايةَ التي مِن أجلِهَا خلقَ اللهُ تعالَى الخلقَ.. والنفسُ ثانيًا؛ لكونِهَا الوعاءَ الذي يضمُّ الجوارحَ والقلبَ والعقلَ… وجاءَ العقلُ في المرتبةِ الثالثةِ؛ لكونِهِ وسيلةَ التَّلقِّي والفهمِ، فيتلقَّى عن اللهِ تعالَى بواسطةِ الأنبياءِ الشريعةَ، ويُفْهَمُ عنهُم المرادُ والمقصدُ.
** ومِن مظاهرِ اهتمامِ الإسلامِ بالعقلِ أنّهُ حرّمَ كلَّ مَا يَضُرُّ بالعقلِ ومِن ذلكَ تحريمُ الخمورِ والمخدِّراتِ والمفسداتِ العقليةِ وما قامَ مقامُهَا مِن المسكراتِ، فقد جاءتْ النصوصُ في القرآنِ والسنةٍ بتحريمِ الخمرِ، ويقاسُ عليهِ ما ماثلَهُ في الإسكارِ أو زادَ عليهِ، قالَ اللهّ تعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة : ٩٠- ٩١].
تابع/ خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024 : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للشيخ كمال المهدي
والمخدراتُ التي ظهرتْ في هذا الزمانِ قد أجمعَ العلماءُ على إلحاقِهَا بالخمرِ لاستواءِ العلةِ الجامعةِ، بل هي أشدُّ خطراً مِن الخمورِ باتفاقِ الأطباءِ والعقلاءِ، بل وعامةِ الناسِ، ويُستدَلُّ على إلحاقِهَا بالخمرِ ما جاءَ عن ابنِ عمرَ -رضي اللهُ عنهُمَا- أنّهّ قالَ، قالَ: رسولُ اللهِ ﷺ: “كلُّ مُسكرٍ خمرٌ، وكلُّ مُسكرٍ حرامٌ”.) [أخرجه البخاري]. وعن أبي مالكٍ الأشعرِيِّ -رضي اللهُ عنهُ- أنّهُ سمعَ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: “ليشربَنَّ ناسٌ مِن أمتِي الخمرَ يسمونَهَا بغيرِ اسمِهَا”. وعن أمِّ سلمةَ -رضي اللهُ عنها- قالت: “نهَى رسولُ اللهِ ﷺ عن كلِّ مُسكرٍ ومُفتِّرٍ”(رواه أبو داود).
والمفتِّر هو ما يجعلُ الأعضاءَ تتخدرُ وترتخِي، وهذه العلةُ موجودةٌ في المخدراتِ، وموجودةٌ في المنشطاتِ بعدَ زوالِ مفعولِهَا،
وآفةُ السكرٍ هي أمُّ الخبائثِ، ومفتاحُ كلِّ شرٍّ، وبوابةُ الهلاكِ، فكم حصلَ بسببِهَا مِن سفكٍ للدماءِ المعصومةِ، وإتلافٍ للأموالِ الخاصةِ والعامةِ، وانتهاكٍ للأعراضِ المصونةِ حتى على المحارمِ، وكم قضتْ على طاقاتٍ نافعةٍ وعقولٍ ناضجةٍ، وأشقَتْ مِن أسرٍ سعيدةٍ، وكم أذلتْ مِن عزيزٍ، وأفقرتْ مِن غنيٍّ، وأهانتْ مِن كريمٍ، وصغرتْ مِن عظيمٍ، وأمرضتْ مِن صحيحٍ، وفرقتْ بينَ الأقاربِ والأحبةِ والأصدقاءِ.
أخرجَ النسائِيُّ وابنُ حبانٍ في صحيحِهِ، أنَّ عثمانَ رضي اللهُ عنهُ قامَ خطيبًا فقالَ: ” أيُّهَا الناسُ، اتقُوا الخمرَ؛ فإنّهَا أمُّ الخبائثِ، وإنَّ رجلًا مِمّن كانَ قبلَكُم مِن العُبّادِ، كان يختلفُ إلى المسجدِ، فلقيتهُ امرأةُ سُوءٍ، فأمرتْ جاريتَهَا فأدخلتْهُ المنزلَ، فأغلقتْ البابَ، وعندهَا باطيةٌ مِن خمرٍ، وعندهَا صبيٌّ، فقالتْ لهٌ: لا تفارقنِي حتى تشربَ كأسًا مِن هذا الخمرِ، أو تواقعنِي، أو تقتلَ الصبيَّ، وإلّا صِحتُ، تعنِي: صرخْتٌ، وقلتُ: دخلَ عليَّ في بيتِي، فمَن الذي يصدِّقُكَ؟ فضعفَ الرجلُ عندَ ذلكَ وقال: أمّا الفاحشةُ فلا آتيهَا، وأمّا النفسُ فلا أقتلُهَا، فشربَ كأسًا مِن الخمرِ. فقالَ: زيدينِي. فزادَتْهٌ، فو اللهِ ما برحَ، حتى واقعَ المرأةَ وقتلَ الصبيَّ”.
فلا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ العلِيِّ العظيمِ.
تابع/ خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024 : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للشيخ كمال المهدي
والحِكمةُ أحبتِي في اللهِ مِن تحريمِ الخمرِ والمُخدِّراتِ: المحافظةُ على نعمةِ العقلِ والإدراكِ.
قالَ الرازِيُّ: (إنَّ عقلَ الإنسانِ أشرفُ صفاتِهِ، والخمرُ عدوُّ العقلِ، وكلُّ ما كانَ عدوَّ الأشرفِ فهو أخسُّ، فيلزمُ أنْ يكونَ شربُ الخمرِ أخسَّ الأمورِ…
أحبتِي في الله: العقلُ إنّمَا سُمِّيَ عقلاً؛ لأنّهُ يجرِي مجرَى عقالِ الناقةِ، فإنَّ الإنسانَ إذا دعاهُ طبعُهُ إلى فِعلٍ قبيحٍ، كان عقلُهُ مانعاً لهُ مِن الإقدامِ عليهِ، فإذا شَرِبَ الخمرَ بقيَ الطبعُ الداعِي إلى فعلِ القبائحِ خالياً عن العقلِ المانعِ منهَا.
وذَكَرَ ابنُ أبي الدنيا: أنّهُ مَرَّ على سكرانٍ، وهو يبولُ في يدِهِ، ويمسحُ بهِ وجهَهُ كهيئةِ المتوضئِ، ويقولُ: الحمدُ للهِ الذي جعلَ الإسلامَ نوراً، والماءَ طهوراً)..
فإذا فقدَ الإنسانُ عقلَهُ أصبحَ لا قيمةَ لهُ بل أصبحَ كالبهيمةِ التي لا تعقلُ هكذَا قررَ ربُّ العزةِ جلَّ وعلا فقالَ: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [سورة الفرقان: ٤٤]
أمّا الإنسانُ العاقلُ فيضبطُ حماستَهُ وعاطفتَهُ، فالعاطفةُ بدونِ عقلٍ تنقلبُ إلى عاصفةٍ تهوي بصاحبِهَا، والحماسُ بدونِ عقلٍ ينقلبُ إلى تهورٍ يدمرُ صاحبَهُ.
وصدقَ القائلُ:
يزينُ الفتَى في الناسِ صحةُ عقلِـهِ *** وإنْ كانَ محظوراً عليهِ مكاسبُهُ .
يشينُ الفتَى في الناسِ قلَّةُ عقلِـهِ *** وإنْ كرمَتْ أعراقُهُ ومناسـبُهُ .
يعيشُ الفتَى بالعقلِ في الناسِ إنّهّ *** على العقلِ يجرِى علمُهُ وتجاربُهُ .
وأفضلُ قسمِ اللهِ للمــرءِ عقلُــــهُ *** فليسَ مِن الأشياءِ شيئٌ يقاربُهُ .
إذا أكملَ الرحمنُ للمرءِ عقلَـــهُ *** فقد كملتْ أخلاقُهُ ومآربُهُ .
وكمالُ العقلِ والذكاءُ والفطنةُ صفةٌ لصحابةِ رسولِ اللهِ ﷺ، ومواقفُهُم رضي اللهُ عنهُم الدالةُ على ذلكَ كثيرةٌ، منهَا على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ:
تابع/ خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024 : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للشيخ كمال المهدي
ووردَ عن حذيفةَ رضي اللهُ عنه، قال: لقد رأيتُنَا مع رسولِ اللهِ ﷺ ليلةَ الأحزابِ، وقد أخذتنَا ريحٌ شديدةٌ، وقرَّ، فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: (ألَا رجلٌ يأتينِي بخبرِ القومِ، جعلَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ معِي يومَ القيامةِ)، فسكتنَا فلم يجبْهٌ منَّا أحدٌ، ثم قال: (ألَا رجلٌ يأتينِي بخبرِ القومِ، جعلَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ معِي يومَ القيامةِ)، فسكتنَا فلم يجبْهُ منَّا أحدٌ، فقالَ: (قمْ يا حذيفةَ فأتنَا بخبرِ القومِ)، فلم أجدْ بُدًّا إذ دعانِي باسمِي أنْ أقومَ، قالَ: (اذهبْ فأتنِي بخبرِ القومِ، ولا تذعرهُم عليَّ)، فلمَّا وليتُ مِن عندِهِ، جعلتُ كأنّمَا أمشِي في حمامٍ حتى أتيتُهُم، فرأيتُ أبَا سفيانَ يُصلِّي ظهرهُ بالنارِ، فوضعتُ سهمًا في كبدِ القوسِ، فأردتُ أنْ أَرميَهُ، فذكرتُ قولَ رسولِ اللهِ ﷺ: (ولا تذعرهُم عليَّ)، ولو رميتُهُ لأصبتُهُ … ثم صاحَ أبو سفيانَ: لينظرْ كلُّ واحدٍ منكّم مَن جليسُه؟ فبادرتُ الذي بجانبِي وقلتُ لهُ: مَن أنتَ؟ [أخرجه مسلم].
قولُهّ: ثمَّ صاحَ أبو سفيانَ: لينظرَ كلُّ واحدٍ منكُم مَن جليسُهُ؟ يقولُ: فبادرتُ الذي بجانبِي، وقلتُ لهُ: مَن أنتَ؟ وهذا مِمّا يدلُّ على الذكاءِ ورجاحةِ العقلِ.
** وإنَّ الناظرَ في السيرةِ النبويةِ يجدُ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يوكلُ قيادةَ الجيوشِ في كثيرٍ مِن الأحيانِ إلى الشبابِ ” وقد يكونُ في القومِ مِن كبارِ السنِّ وأصحابِ الخبرةِ العديد، لكنّهُ ﷺ يرى شخصيةً صغيرةً في السنِّ، لكنّهُ يرومُ فيهَا كبرَ المعانِي ورجاحةَ العقلِ، فيعملُ على تنميتِهَا ورعايتِهَا حتى تغدُو ذاتَ شأنٍ، وتقوى وتعتدُّ بإسلامِهَا، وليعرفَ الآخرونَ أنَّ الشخصيةَ الإسلاميةَ لا تقاسُ بالأعمارِ ولا بالأجسامِ بل بقوتِهَا وعزتِهَا بإيمانِهَا وإسلامِهَا وكمالِ عقلِهَا.
** ومِن آياتِ ودلائلِ عنايةِ النبيِّ ﷺ بتنميةِ العقلِ أيضًا، ما يمكنُ تسميتهُ بنهجِ (سين جيم)، أو لكلِّ سؤالٍ مِن المتعلمِ جوابٌ مِن المعلمِ.. “فالتفكيرُ العقلِي.. يقودُ إلى التساؤلِ، طلبًا للإيضاحِ حولَ شيءٍ ما، أو طلبًا لفهمِ المعانِي والأسبابِ، أو إعادةِ النظرِ في معنَى ما هو موجودٌ “. والقرآنُ الكريمُ يخبرُنَا أنَّ مَا مِن سؤالٍ سألَهُ الصحابةُ الكرامُ إلَّا وأجابَهُم رسولُ اللهِ مبلغًا عن ربِّ العالمينَ عزَّ وجلَّ، وقد وردتْ كلمةُ يسألونَكَ في القرآنِ الكريمِ في 13 موضعًا، فقد سألُوا: عن ظواهرَ فلكيةٍ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ) [البقرة: ١٨٩].. وعن أمورٍ اقتصاديةٍ: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ) [البقرة: ٢١٥].. وعن أمورٍ عسكريةٍ ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ )[ البقرة:٢١٧ ]، و( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ) [ الأنفال : ١ ] … وعن أمورٍ صحيةٍ واجتماعيةٍ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) [البقرة : ٢١٩ ]… وعن أمورٍ أسريةٍ: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ) [ البقرة : ٢٢٢]، و ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ )[ البقرة : ٢٢٢] … وعن أمورٍ دنيويةٍ: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[ المائدة : ٤ ] … وعن أمورٍ أُخرويةٍ وغيبيةٍ: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ )[ الأعراف : ١٨٧] .. و (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الإسراء: ٨٥].. وعن أمورٍ تاريخيةٍ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ) [الكهف: ٨٣].. وعن ظواهرَ جيولوجيةٍ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ) [طه: ١٠٥] …
وهكذا نلاحظُ مرةً أخرى، أنَّ النبيَّ ﷺ فتحَ البابَ على مصراعيهِ أمامَ العقلِ الإنسانِي ليتساءلَ في جميعِ مجالاتِ الحياةِ، وأنَّ المتعلمينَ في مدرسةِ الحبيبِ المصطفَى ﷺ لولَا إدراكهُم أنَّ المعلمَ لا يضيقُ ذرعًا بتلكَ التساؤلاتِ، وأنَّ نهجَهُ هو احترامُ عقولِهِم واحترامُ نهمِهَا للمعرفةِ والوصولِ للحقِّ والصوابِ.. ما كانُوا ليتجرءُوا ويعرضُوا هذا الكمَّ مِن التساؤلاتِ التي وردتْ في القرآنِ الكريمِ وحدَهُ، علاوةً طبعًا على التساؤلاتِ والاستفساراتِ المحتشدةِ في كتبِ السيرةِ النبويةِ الشريفةِ.
* وعلى هذا النهجِ صارَ خليفةُ رسولِ اللهِ ﷺ أبو بكرٍ الصديقُ رضي اللهُ عنه، فعندمَا عزمَ أبو بكرٍ الصديقُ على جمعِ القرآنِ موافقةً لرأيِ الفاروقِ عمرَ بنِ الخطابِ، أرسلَ إلى زيدِ بنِ ثابتٍ رضي اللهُ عنهُم أجمعين، وقالُ: إنّكَ رجلٌ شابٌّ عاقلٌ لا نتهمُكَ، وقد كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسولِ اللهِ ﷺ، فتتبعْ القرآنَ فاجمعْهُ، [أخرجه البخاري]، فمِن الصفاتِ التي جعلتْ أبا بكرٍ يختارُ زيدَ بنَ ثابتٍ رضي اللهُ عنهمَا لجمعِ القرآنِ الكريمِ: العقلُ.
تابع/ خطبة الجمعة القادمة 13 ديسمبر 2024 : صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان ، للشيخ كمال المهدي
** وحينَ ننظرُ في القرآنِ الكريمِ، نجدُهُ مليءً بمثلِ هذه الفواصلِ: ” أَفَلاَ تَعْقِلُونَ “، و” لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ “، و ” أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ” ، و ” لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ” .. مِمّا يدلُّ دلالةً لا لبسَ فيهَا على أنَّ التفكيرَ في الإسلامِ عبادةٌ، وطلبَ البرهانِ واجبٌ، وطلبَ العلمِ فريضةٌ، كمَا أنَّ الجمودَ رذيلةٌ، والتقليدَ جريمةٌ.. فالإسلامُ يريدُ مِن المسلمِ أنْ يكونَ على بينةٍ مِن ربِّهِ، وأنْ تكونَ دعوتُهُ على بصيرةٍ، ولا يقبلُ إيمانَ المقلدِ، ولا يرضَى مِمّن آمنَ أنْ يكونَ إمّعَةً، يفكرُ برأسِ غيرِهِ، ويقادُ فينقادُ بغيرِ تفكيرٍ ولا تبيُّنٍ، بل الواجبُ أنْ يفكرَ وينظرَ ويتفقهَ ويعقلَ.”
قالَ تعالَى مُنكرًا على هؤلاءِ المشركينَ الذينَ قلدُوا آباءَهُم ولم يستخدمُوا عقولَهُم فكانَ ذلكَ سبباً في ضلالِهِم وغيِّهِم وكفرِهِم، قالَ تعالَى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠].
فلابُدَّ مِن إعمالِ العقلِ وعدمِ إلغائِهِ؛ فهو الدليلُ لنَا للسيرِ على الصراطِ المستقيمِ، وهو السبيلُ لبناءِ الإنسانِ الكاملِ وبناءِ الحضاراتِ.
************
أسألُ اللهُ تعالى أنْ يرزقَنَا علمًا نافعًا وقلبًا خاشعًا ولسانًا ذاكرًا وبدنًا على البلاءِ صابرًا وأنْ يرزقنَا عقلًا ناضجًا.
كتبه: الشيخ/ كمال السيد محمود محمد المهدي إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
تابعنا علي الفيس بوك
الخطبة المسموعة علي اليوتيوب
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أخبار الأوقاف
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
للمزيد عن مسابقات الأوقاف
Source link